اليوم الثامن – ما هو الدين الحق؟
ما هو الدين الحق؟
مع سماحة العلامة الشيخ حسين المعتوق.
التغطية المصورة:
التغطية الصوتية:
التغطية المكتوبة:
الموسم العاشورائي – محرم الحرام 1447 هجري
محاضرة اليوم الثامن تحت عنوان: ما هو الدين الحق؟
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد وآله الطيبين الطاهرين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة والأخوات الكرام، أيها الحضور المبارك،
نقف اليوم لنتأمل في مفهوم عظيم، كلمة تتداولها الألسن، ولكن قلما نتعمق في أبعادها الحقيقية، ألا وهي كلمة “الدين”. إن النص الذي بين أيدينا يقدم لنا رؤية عميقة وشاملة لهذا المفهوم، متجاوزاً التعريفات الضيقة التي قد تختزله في مجرد علاقة فردية مع المقدس، لينتقل بنا إلى المعنى القرآني الأصيل: “الدين هو منهج الحياة”.
النقطة الأولى: الدين منهج حياة لا يخلو منه أحد
لقد درج البعض، خاصة في الفكر الغربي الحديث، على تعريف الدين بأنه العلاقة بين الفرد وما يقدسه، أو علاقة الإنسان مع المقدس، مع بعض الشؤون الفردية والاجتماعية الضيقة المترتبة عليها. وهذا التعريف أدى إلى فصل الدين عن بقية شؤون الحياة، وأثار تساؤلات حول علاقة الدين بالسياسة والاقتصاد والمجتمع.
لكن القرآن الكريم، كما يوضح النص، يطرح مفهوماً مختلفاً تماماً. فالقرآن يفترض أن الدين لا يخلو منه أحد؛ لا يوجد إنسان عاقل بلا دين. الدين هو لازم عقلي لكل فرد عاقل. ولهذا، فإن الله عز وجل يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون: 1-6). فالدين هنا هو منهج الحياة. قد يعبر عنه القرآن تارة بـ “الدين”، وتارة بـ “الطريقة”، و”الشريعة”، و”المنهاج”، و”الصراط”. كلها تعابير تشير إلى ذات المفهوم: منهج حياة الإنسان.
فإذا رأى أحدهم أن علاقته بالله محصورة بحدود معينة، وأن ما خارج هذه الحدود لا يمت بصلة لتلك العلاقة، فهذا هو دينه، هذا هو منهجه في الحياة. أما نحن، فديننا هو منهج الحياة بشكل كامل، شامل لكل تفاصيلها.
النقطة الثانية: خلاصة الدين في القرآن الكريم: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
يطرح القرآن الكريم الدين بطرح إجمالي، يتجلى في سورة الفاتحة المباركة، حيث يختصر الدين في جملتين عظيمتين: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. هذا هو جوهر الدين.
أولاً: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾: العبودية، كما يعرفها المحققون، هي الخضوع الناشئ من الاعتقاد بالربوبية والألوهية. فإذا خضعت لأحد من جهة إيماني بألوهيته وربوبيته، فهذه هي العبادة. “أعبد الله” تعني أن حياتي كلها قائمة على الخضوع له من جهة إيماني بربوبيته وألوهيته. فالركن الأول للدين هو الخضوع لله في كل شؤون الحياة: في القيام، في الجلوس، في الأكل، في الشرب، في الصلاة، في الصوم، في الحج، في البيع، في الشراء. أن أجعل حياتي كلها في ظل طاعة الله وأوامره.
ثانياً: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: لا يمكن للإنسان أن يمضي في الحياة ويحقق هذا الخضوع إلا باللجوء إلى الله. فكما جاء في الدعاء: “وأسأله أن يتوب عليَّ توبة عبد ذليل خاضع فقير بائس مسكين مستكين مستجير لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً”. الإنسان فقير مطلق، لا قدرة له على شيء إلا إذا أراد الله عز وجل. فالدين يبدأ باللجوء إلى الله، ثم بالخضوع له بعد اللجوء، حتى يتحقق التوفيق من قبل الله عز وجل. العلاقة بين ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ و﴿إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ هي أن الدين يعني أن حياتي كلها مبنية على اللجوء إليه، والتعلق به، والخضوع له، والتسليم إليه.
أركان الإيمان الأربعة: رواية الإمام الصادق (عليه السلام)
تفسر الروايات هذا الأمر، ويمكن اعتبارها تفسيراً لـ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾. فقد ورد في الرواية الصحيحة عن الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) قال: “أركان الإيمان أربعة”. إذا سقط أحدها، لم يبق الإيمان:
الركن الأول: الاعتماد على الله (التوكل): أي الثقة والاعتماد عليه. أن تثق بالله وتعتمد عليه في كل أمورك.
الركن الثاني: التفويض إلى الله: أن تكون كل رغباتك في حدود إرادته. لا تكون لك إرادة في مقابل إرادته. أنت تريد ما يريده هو، وتطلب منه ما تريده إذا كان هو يريده. تفوض الأمر إليه لأنه العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، وهو أرحم بك من نفسك ومن أقرب الناس إليك.
الركن الثالث: الرضا بقضاء الله: إذا قضى الله أمراً يخالف ما تريده، فلا تتفاجأ ولا تصدم. لأن الذي يدير الأمور هو الله. “الحمد لله الذي يفعل ما يشاء ولا يفعل ما أشاء”. أنت تثق به، فكيف بخالق الخلق وجبار السماوات والأرض؟ إذا أردت بيتاً ولم يقدر لك، يجب أن تفرح. أولياء الله ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾. إذا كنت منزعجاً، فهناك خلل في الإيمان والرضا بقضاء الله.
الركن الرابع: التسليم لأمر الله: أن تفعل ما يريده هو، لا ما تريده أنت. أن تفعل في الدنيا ما يريده الله، لا ما تريده نفسك.
هذه الأركان الأربعة هي كل الدين. هي الجهات الجامعة المانعة للدين. نعم، يوجد تفصيل لهذه الجهات، لكن لا توجد إضافة للمعنى. هذا هو الدين الحق، الدين الإلهي، وهذا هو الصراط المستقيم.
ثالثاً: الصراط المستقيم: علاماته الثلاث
لماذا سمي “الصراط المستقيم”؟ لأن الحياة الدنيا لها هدف يجب أن تنتهي إليه، والحياة التي تؤدي إلى الهدف تسير في طريق مستقيم، لا طريق معوج. ويطرح القرآن الصراط المستقيم بثلاث مواصفات:
الصفة الأولى: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾: هذا هو طريق الأنبياء، طريق الأئمة، طريق الأولياء. هل حياتنا تسير على هذا النمط؟ هل هي طريقة الأنبياء والأئمة والأولياء؟ إذا كانت على غير ذلك، فنحن نسير في الاتجاه الخاطئ. الدعاء المستحب في صلاة الصبح: “اللهم أحيني على ما أحييت عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه، وأمتني على ما مات عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب”. إذا كنت تعيش مثل علي بن أبي طالب، فأنت في الصراط المستقيم. وإلا، فحياتك خاطئة، دينك ليس صحيحاً، وهناك خلل في أصل الدين.
الصفة الثانية: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾: يعني أن حياتي لا تحتوي على ما يغضب الله. ليس المقصود مطلق المعصية، وإن كانت المعصية توجب غضب الله. بل هناك معاصي كبيرة توجب مقت الله عز وجل، سواء في الشؤون الاجتماعية الضيقة أو العامة. مثل قطيعة الرحم وحقوق الوالدين. “من نظر إلى أبويه نظر مقت لهما وهما ظالمان له، لم يقبل الله عز وجل له صلاته”. وكذلك إيذاء المؤمنين. “من آذى عبدي المؤمن فقد بارزني بالمحاربة”. كيف تتقرب إلى الله وأنت في حالة حرب معه؟ هذا التقرب لا معنى له. فإذا كنت من المغضوب عليهم، فلا فائدة.
الصفة الثالثة: ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾: أي أصحاب بصيرة ووعي. من لا يملك الوعي فهو ضال ضائع. يجب أن تكون صاحب بصيرة وعقل وفهم، تفهم الأمور جيداً، وترى الحقائق أمامك. ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ (يونس: 100). أن لا تكون من الضالين يعني أن تكون على وعي وبينة وبصيرة من أمرك، على هداية.
هذه المواصفات الثلاثة إذا لم تكن موجودة، فدينك ليس صحيحاً. ولهذا، يأمرنا الله عز وجل بتكرار هذه العبارات في صلواتنا اليومية، ليس مجرد ألفاظ، بل لأنها جسر إلى المعنى، والمعنى ليس مطلوباً لذاته، بل ليحرك حياتنا. الله يريد لحياتنا أن تنصهر في هذه المفاهيم، وأن تكون هذه المفاهيم حاكمة لحياتنا.
خلاصة الدين في آيات أخرى: التزكية ونهي النفس عن الهوى
هناك خلاصات أخرى للدين في القرآن الكريم، تعبر عن نفس المشروع والفكرة:
- ﴿فَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾ (النازعات: 40-41): هذا هو الدين. أن تعطل رغباتك أمام الله، تستجيب لله وتعطل أهواء نفسك. لا يوجد شرط آخر. نعم، يوجد تفصيل لهذين الشرطين، لكن هذه هي كل المعادلة.
- ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 9-10): هذا هو الدين. الدين يعني تزكية النفس. كل الدين هو تزكية النفس. لا توجد إضافة، بل تفصيل.
- ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ﴾ (الأعلى: 14-15): هذه هي خلاصة الدين.
رابعاً: كيف نقيس مدى التزامنا؟
أيها الأحبة، كيف نشخص وضعنا؟ هل نحن نسير في الاتجاه الصحيح أم الخاطئ؟ المسطرة سهلة. هل نعيش مثل أهل الدنيا أم مثل أهل الآخرة؟ هل نفكر مثل أهل الدنيا أم مثل أهل الآخرة؟ هذا لا يحتاج شرحاً طويلاً. هل حياتنا يومياً تقربنا إلى الله أم تبعدنا عنه؟
يذكر سماحة السيد حسن نصر الله (قدس سره الشريف) أنه كان يسعى لزيارة أساتذة العرفان والأخلاق ليعرف طريق الوصول إلى الله، وكثيراً ما لم يقتنع بكلامهم. ثم توجه إلى الإمام الخامنئي (دام ظله الشريف)، الذي نصحه بقراءة الدعاء الخامس والدعاء الرابع والعشرين من الصحيفة السجادية. وقال له: “مولانا، هذا خارطة الطريق لحياة كل إنسان يريد الله”. هذا الدعاء القصير هو منهج حياة.
نحن نعرف الجواب بأنفسنا. هل نحن نقترب من الله أم أن الدنيا تأخذنا؟ إذا لم تأخذنا الدنيا، فنحن نسير في الصراط المستقيم. وماذا نحتاج؟ نحتاج كثرة الاستغفار وكثرة التوبة. دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام): “اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء، اللهم اغفر لي كل ذنب أذنبته، وكل خطيئة أخطأتها”. إذا تراكمت علينا هذه الأمور، فكيف نكون مع صاحب الزمان (عجل الله فرجه)؟ كيف يرضى لنا قلب صاحب الزمان؟
هل نعيش آلام الإمام الحسين (عليه السلام)؟ هل نعيش آلام صاحب الزمان (عجل الله فرجه)؟ هل ننتظر ظهوره بصدق؟ الإمام عند الباب، ونحن لا نفتح الباب. الإمام ينتظرنا أن نتحمل مسؤوليتنا. هل نحن مستعدون لنكون معه كما كان أصحاب الحسين مع الحسين؟ كما كان حبيب ومسلم بن عوسجة، والقاسم بن الحسن، وعلي الأكبر؟
السلام عليك يا مولاي يا أبا عبد الله الحسين، ورحمة الله وبركاته. سلام من لو كان معك بالطفوف، لو قابلك بنفسه حد السيوف، وبذل حشاشته دونك الحتوف. السلام عليك سلام المفجوع المستكين. السلام على الشيب الخضيب، السلام على الخد التريب، السلام على البدن السليب. السلام على الرأس المقطوع، السلام على من غسل دمه والتراب كافوره.
إن الدين الحق هو أن نعيش هذه الآلام، هذه الهموم، أن نكون على وعي دائم بحقيقة وجودنا وهدف حياتنا. أن نكون دائماً في حالة تزكية للنفس، وخضوع لله، وتفويض لأمره، ورضا بقضائه، وتسليم لإرادته. هذا هو الدين الشامل، منهج الحياة الذي يضمن لنا الفلاح في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.