حديث قرآني في صفات المنافقين
*حديث قرآني في صفات المنافقين*
بمشاركة:
*الشيخ عبدالله ضيف*
التغطية المصورة:
التغطية الصوتیة:
التغطية المکتوبة:
مقدمة:
عقد منتدى السيدة المعصومة الثقافي في قم المقدسة وضمن برنامجه “الملتقى الأسبوعي” بتاريخ ٢٢ نوفمبر محاضرة لسماحة الشيخ عبدالله ضيف الستري (سلمه الله) بعنوان (حديث قرآني في صفات المنافقين) وفيما يلي نص ما تفضل به سماحته
المقدمة الأولى:
المفهوم الأول: النفاق
إخفاء الكفر وإظهار الإيمان، كنافق الرجل، أي: أخفى كفره وستره وأظهر الإيمان. وعبر عنه في العين كما سبق هو “الخلاف والكفر”[1]، حيث إن الرجل ينافق المسلمين، فيظهر لهم الإسلام والإيمان ويبطن لهم الكفر والعدوان.
النّفاق في اصطلاح الفقهاء: هو إظهار الإيمان مع كتمان الكفر.[2]
ولا يوجد قبل الإسلام استخدام لكلمة النّفاق بالمعنى المخصوص به، حيث قال ابن الأثير في النهاية: “لم تعرفه [النّفاق] العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستر كفره ويظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفاً“.[3] ومثله قول المشكيني صاحب مصلحات الفقه[4]. فللفظة النفاق حقيقة شرعية.
المقدمة الثانية: هذا التعريف على نحو المقتضي، كالورقة التي شرطها تقرب للنار والمانع من إحراقها هو الرطوبة.
المقدمة الثالثة: نبذة تاريخيّة عن المنافقين
واجه المسلمون عدة أعداء في بدايات حركتهم، وهم:
العدو الأول: الكفار، وقد واجه النبي ’ منهم الذى الكثير في مكة المكرمة وكذلك بعد هجرته إلى المدينة المنورة، قوله تعالى: {إِنَّ الْكافِرينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبيناً}[5].
العدو الثاني: بعض أهل الكتاب، وهم من يؤمنون بالكتب السماوية كاليهود والنصارى وغيرهما، وهؤلاء بسبب أن الإسلام لم يخضع لرغباتهم الشخصية والدنيوية حاربوا الإسلام، قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمينَ}[6].
العدو الثالث: المنافقون، وهم أمن أبطن الكفر وأظهر الإسلام وتحركوا للإطاحة بالإسلام، لعد ذكر أوصاف المنافقين قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[7].
ويعد خطر المنافقين على الإسلام أشد من الباقين، إذ المنافق غير مشخص العداوة ويتواجد بين صفوف المسلمين، وينفذ في المؤسسات الإسلامية، ومؤثر كبير في القرارات المصيرية، بعكس الأول والثاني فهما مشخصا العداوة.
البحث الثالث: أبرز الشخصيات المنافقة في الإسلام
وهم كثر، واقتصر على أهم ثلاثة منهم،
- عبدالله بن أبيّ بن سلول، وقد نزلت فيه آيات متعددة، حيث كان رأس المنافقين وإليه يجتمع المنافقون[8]، وقد دخل النّبيّ الأكرم محمد ’ إلى المدينة، وكان ينظم له الخرز ليتوجوه إمارة المدينة، ويرى أن رسول الله قد استلبه ملكاً ينتظر وصوله إليه[9].
- نبتل بن الحارث، حيث قال فيه الرسول ’: (من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث)[10]، وكان ممن يؤذي النبي ’[11].
- أبو عامر الراهب وأصحابه، راهب كان يبشر بظهور النّبيّ الأكرم محمد ’، فلما جاء النّبيّ ’ إلى المدينة ودعاه للإسلام فأبى، وكان معه جماعة انفضوا عنه، فذهب فيما بعد إلى مكة المكرمة، وعمل على التحشيد ضد النّبيّ ’ والإسلام. ثم ذهب للشام لتحشيد الروم ضد النّبيّ ’، وكان يتواصل مع الذين نافقوا ويعدهم ويمنيهم، وقد أمرهم ببناء مسجد ضرار كمقر له ومجمع للمنافقين.[12]
صفات المنافقين في القرآن الكريم
المبحث الأول: الصفات القلبية والنفسية
ذكرت في القرآن الكريم صفات متعددة للمنافقين قلبية ونفسية، وكلها أصلها واحد، وهو في حقيقتها يرجع إلى مرض قلبي، أدى إلى نتائج نفسية أخرى.
المرض القلبي
وردت لفظة المرض في معنيين في القرآن الكريم، الأول بمعنى المرض الجسدي قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ}[13] ، والمعنى الثاني ما يخص النفس قوله تعالى {في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُون}، وما ذكر في حق المنافقين بالمعنى الثاني.
النقطة الأولى: حقيقة المرض القلبي
المعنى الأول: عدم الاستقامة على حالة التعقل بما من شأنه أن يذعن به من الحق، وهو الشك والارتياب”[14] قوله تعالى: {لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمينَ لَفي شِقاقٍ بَعيدٍ}[15]. ضعف الإيمان.
المعنى الثاني: “فقدان قوة الإيمان التي تردعه عن الميل إلى الفحشاء”[16]. قوله تعالى: {يا نِساءَ النّبيّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}[17]. الانقياد وراء الشهوات.
المعنى الثالث: مرض النفاق والانفصام بين الباطن والظاهر، قوه تعالى: {في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَليمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُون}.
النقطة الثانية: نتائج المرض القلبي
ومن النتائج التي ذكرها القرآن الكريم للمنافقين مرضى القلوب أموراً عدة:
الأمر الأول: رفض الهداية
قد ختم الله على قلوب المنافقين، قوله تعال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُم}[18].
الأمر الثاني: الصد عن سبيل الله
الصد عن القيادة الشرعية الإلهيّة، مع ادعائهم الإيمان، وأن من ثوابت الإيمان الرجوع إلى القيادة الإلهيّة لمعرفة الحكم الشرعي ولكن لما يعيشونه من البعد عن الهداية والتخبط فيما يعملون، يذهبون إلى الطاغوت ليتحاكموا عنده، قوله تعالى: {وَإِذا قيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}[19].
الأمر الثالث: العمه والصم والبكم والعمى
يصاب المنافق بالصم والبكم والعمى، فالمنافق يصم نفسه بإرادته واختياره عن سماع الحق، ويبكم نفسه بإرادته واختياره عن النطق بالحق، ويعمي نفسه بإرادته واختياره عن الإبصار إلى الحق، فبما كسبت يداه من مرض في قلبه، يقول تعالى: {صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون}[20]، فبسبب هذا المرض وبسوء اختيارهم، يقول تعالى: {أُولئِكَ الَّذينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُون}[21].
الأمر الرابع: العزة بالإثم
لا يكتفي المنافق برد الحق، بل تأخذه العزة بالإثم، فيرى نفسه على حق، فتشتعل في نفسه وقلبه نيران العصبية، فلا يقبل الحقّ ويصر على إثمه وعدوانه، قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ولَبِئْسَ الْمِهَادُ}[22].
الأمر الخامس: الشعور بالخوف
يعيش المنافقون الخوف من أي حركة أو آية أو فعل من النّبيّ ’ أو المؤمنين، إذ يخاف المنافقون ظهور نفاقهم وانكشاف أمرهم فيتجرعون ألم الخوف والوجل، قوله تعالى: {يَحْسَبُونَ كلّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِم}[23].
المبحث الثاني: الصفات المجتمعيّة
يتخلّق المنافقون بصفات معينة يتعاملون بها مع المجتمع المسلم، تارة ضد قيادة المجتمع وتارة أخرى ضد مكونات المجتمع وتارة ثالثة مع العدوّ الخارجي للمجتمع المسلم، فهي تتعامل مع كلّ جهة بحسب المعطيات التي لديها، والأساليب المؤثرة، واذكرها في نقاط:
النقطة الأولى: ضد قيادة المجتمع
عمل المنافقون على إسقاط شخصية النّبيّ محمد ’ في المجتمع الإسلاميّ في حياته وبعد مماته، والقرآن الكريم قد وثق أعمال المنافقين التي صدرت منهم من أجل تشويه سمعة النّبيّ ’، وأبرز المواقف:
الأمر الأول: التحاكم إلى الطاغوت مع وجود النّبيّ ’
الأصل هو الرجوع في حالة التنازع لمن له الولاية أمر بديهي، قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلا}[24]، وشيء أوسع المفاهيم، فالتنازع سواء كان في أمر ديني أو دنيوي فيراجع فيه القيادة المعصومة العارفة بالدين.
وقد خرج المنافقون عن هذا الأصل بصريح القرآن الكريم، قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُريدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُريدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعيدا}[25]، فمن غير المعقول أن آمن بمبدأ معين فكراً وأخالف هذا المبدأ عملاً وسلوكاً.
الأمر الثاني: الاغتيال المعنوي
عمل المنافقون على استغلال أي حدث ممكن في تشويه سمعة النّبيّ الأكرم ’ بما يسمى في الاصطلاح المعاصر الاغتيال المعنوي، وذلك بعدة طرق، منها:
الطريق الأول: عودة النّبيّ من غزوة بني المصطلق
وقد ذكرتها في الفصل الأوّل في المبحث الثاني تحت عنوان أبرز الشخصيات المنافقة في الإسلام عبدالله بن أبيّ بن سلول تحت الحدث الثاني، فراجع.
الطريق الثاني: حادثة الإفك
وقد اختلف المفسرون بالمقصود بحادثة الإفك، هل هي عائشة كما هو قول العامة أم هي مارية القبطية أم إبراهيم؟ وناقش السيّد الطباطبائي في كلا الأمرين، وخلص إلى أن المقصود شخصية قريبة من النّبيّ ’ إما زوج وإما أم ولده[26].
فقد رموا أهل النّبيّ ’ بفعل الفاحشة، وقد رد القرآن ذلك، والذين روجوا لهذه الشائعة في أهل النّبيّ ’ هم المنافقون، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيم}[27].
الطريق الثالث: حادثة الغدير
ورد في تفسير القمي: (عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ × قَالَ: لَمَّا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ’ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ كَانَ بِحِذَائِهِ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ- وَهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ[28] وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَالَ الثَّانِي: أَمَا تَرَوْنَ عَيْنَهُ كَأَنَّمَا عَيْنَا مَجْنُونٍ- يَعْنِي النّبيّ السَّاعَةَ يَقُومُ وَيَقُولُ قَالَ لِي رَبِّي- فَلَمَّا قَامَ قَالَ: أَيُّهَا النّاس مَنْ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ- قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَالَ اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ- ثُمَّ قَالَ أَلَا مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ- وَسَلِّمُوا عَلَيْهِ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ- فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ وَأَعْلَمَ رَسُولَ اللَّهِ بِمَقَالَةِ الْقَوْمِ فَدَعَاهُمْ وَسَأَلَهُمْ فَأَنْكَرُوا وَحَلَفُوا- فَأَنْزَلَ اللَّهُ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا)[29]، فنكتشف أنه لآخر أيام الرسول ’ كان المنافقون يستميتون في الاستهزاء وتشويه صورة النّبيّ ’ في مجالسهم وأنديتهم.
الأمر الثالث: الاغتيال الجسدي
تعرض النّبيّ ’ لعدة اغتيالات نجى منها بوحي من الله تعالى، واثنان من الاغتيالات من قبل المنافقين على الأقل، وهما:
الاغتيال الأول: غزوة حنين
فقد نقل أسد الغابة، قوله: “قال الزبير: خرج شيبة [بن عثمان بن أبي طلحة] مع رسول الله ’ يوم حنين، يريد أن يغتال رسول الله ’ فرأى من رسول الله ’ غرّة، فأقبل يريده، فرآه رسول ’، فقال: يا شيبة، هلمّ، فقذف الله في قلبه الرعب، ودنا من رسول الله ’، فوضع يده على صدره، ثم قال: اخسأ عنك الشيطان، فقذف الله في قلبه الإيمان، فأسلم، وقاتل مع رسول الله ’، وكان ممن صبر يومئذ، وقيل في امتناعه من قتل النّبيّ ’ غير ذلك”[30]. وقيل إنه أسلم يوم فتح مكة وقيل أسلم في غزوة حنين عندما أراد قتل الرسول ’[31]. فالكلام يأتي على كونه مسلماً ظاهراً قبل غزوة حنين بغرض قتل الرسول ’.
الاغتيال الثاني: غزوة تبوك (مؤامرة العقبة)
عندما رجع النّبيّ ’ من غزوة تبوك تآمر عليه في العقبة اثنى عشر رجلاً من المنافقين يريدون قتله عن طريق إسقاطه من على ناقته، وقد نزل جبرئيل ينبهه على ذلك، فكان يصحبه عمار يقودها وحذيفة بن اليمان يسوقوها، فبأمر رسول الله ’ ضرب حذيفة وجوه رواحل المنافقين، فرجعوا ضمن حشد النّاس كي لا يعرفهم أحد، وقد عرفهم رسول الله ’ لحذيفة[32]، قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَليماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصيرٍ}[33].
ومحل الشاهد أن الآية تذكر مؤامرة على النّبيّ ’ عبر الاستهزاء بصورة النّبيّ ’ الممثل والقدوة الإسلاميّة، وهو اغتيال معنوي، بقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ}، كما المؤامرة الأخرى هي الاغتيال الشخصي للنبي الأكرم ’ عبر قتله، قوله: {وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا}.
النقطة الثاني: ضد مكونات المجتمع
عمل المنافقون بدقة ضد مكونات المجتمع الإسلاميّ لتفكيك الاندماج والأخوة التي أرسى معالمها الإسلام الحنيف، فاستثمر الفجوات الاجتماعيّة الحاصلة في مجتمع تحول من جاهلية ظلماء إلى عصر النور والتحضر، مستغلين بساطة البعض وجهل البعض الآخر، وتوسع تيار النّفاق بين أفراد المجتمع، وذلك في أمور:
الأمر الأول: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف
اتبع المنافقون خطوات الشيطان عبر أمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف، قوله تعالى: {الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقينَ هُمُ الْفاسِقُونَ}[34]، فقد فضح الله تعالى أمرهم في القرآن الكريم كي يفهم من سيأتي بعدُ ليشخص العدوّ من الصديق، فيعرف أن من ينشر المنكر وينهى عن المعروف في صف الشيطان وأوليائه، ويعادي الله تعالى والمؤمنين.
ونشط في هذا المجال الرجال والنساء منهم، فالاستفادة من العنصر النسائي مهم وخطير في التأثير على المجتمع، فإن صلحت المرأة ربت مجتمعاً صالحاً، وإن فسدت المرأة ربت جيلاً فاسداً.
الأمر الثاني: منع الصدقات عن المؤمنين
حث المنافقون الآخرين على عدم التضامن والتكافل الاجتماعي مع الفقراء والضعفاء، قوله تعالى: {هُمُ الَّذينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقينَ لا يَفْقَهُون}[35] فالهدف الأساس لدى المنافقين أن يضعف المجتمع الإسلاميّ ويتفكك حتى ينفض النّاس عن الرسول ’ وعن الإسلام فتعود الجاهلية لتحكم أمور النّاس وتعيدهم إلى العبودية المقيتة الظالمة، وقد بين ذلك عبدالله بن أبيّ بن سلول في كلامه عندما قال كلمته في قضية منازعته مع جعال في حال رجوعهم من غزوة بني المصطلق، قوله ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: “قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله ’ ثم أقبل على من حضره من قومه فقال هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتوهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم”[36].
الأمر الثالث: الفتنة بين المؤمنين
عرف المنافقون أهمية الأخوة الإيمانية التي أرسى معالمها النبي الأكرم ’ في المدينة المنورة[37]، فحاولوا تفتيت المجتمع عن هذا الطريق، كما قال عبدالله بن أبيّ بن سلول في مشاجرته مع جاعل[38]، تقدمت سابقاً في منع الصدقات عن المؤمنين فلا أعيد.
وعندما يكشف القرآن أعمالهم يحلفون بالله أنهم من المؤمنين، قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُون}[39]، والله تعالى يفاصل بين المنافقين والمسلمين وما هم منكم.
كما استخدموا أسلوب المخادعة والكذب ظناً منهم ينقذون أنفسهم ويغطون عليها من الكشف للمؤمنين، واستخدموا ذلك كي تشيع ظاهرة عدم الثقة بين المسلمين، قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُون}[40].
كما يمارسون أسلوب الخداع والمكر والحيلة، فيحلفون ما قالوا وما فعلوا، كذباً على الله تعالى وعلى رسوله ’ وعلى المؤمنين، وهو من أشد الأعداء عليهم، قوله تعالى: {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما في قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصام}[41].
وهناك من المسلمين من يسمع لهؤلاء المنافقين، قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَليمٌ بِالظَّالِمين}[42].
النقطة الثالثة: التآمر ضد المجتمع مع العدوّ الخارجي
قام المنافقون بالتآمر ضد المجتمع الإسلاميّ والدولة الفتية مع الأعداء الذين يتربصون بالإسلام الدوائر، وقد تنوعت أدوارهم في ذلك، واذكرها ضمن أمور:
الأمر الأول: التخلف عن الجهاد
عمل المنافقون في المدينة على إرباك المشهد الجهادي للمسلمين، وهو عن طريقين:
الطريق الأول: الخروج مع النّبيّ ’ للقتال ومن ثم الرجوع في منتصف الطريق، وذلك لإنزال الإحباط واليأس في قلوب المسلمين عن خوض المعارك، بالإضافة لقلة العدد والعدة.
كما جرى ذلك في معركة أحد، إذ خرج النّبيّ ’ بجيش المسلمين وقوامه ألف مقاتل، وقد رجع عبدالله بن أبيّ بن سلول وجماعة المنافقين في الطريق بما قوامه ثلث الجيش، وقد صرحت رواية أبي الجارود بأنهم ثلاث مئة منافق[43].
الطريق الثاني: البقاء في المدينة والامتناع عن الخروج مع النّبيّ ’ للحروب ابتغاء الفتنة، وتثبيط المقاتلين عن القتال.
حيث حاول المنافقون الاستفادة مما ذكرناه سابقاً -الحالة الروحية والبلاء الشديد- لتثبيط المقاتلين عن الجهاد في سبيل الله، قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَليلاً}[44] وبينت الآية أن المنافقين لا يحضرون القتال إلا قليلاً. وإذا حضر المنافقين في حرب فهم يبحثون عن إثارة للفتن والغوائل بالمسلمين.
الأمر الثاني: التواصل مع العدوّ الخارجي والتجسس
تواصل المنافقون مع العدوّ الخارجي بغرض إنزال الضربات على المسلمين والقضاء عليه، وقد أدى ذلك إلى موالاة ومحبة للكافرين، ثم تواصلوا مادياً عبر التخطيط للحروب وإخلاف التعهدات وغير ذلك.
الحدث الأول: الموالاة للكافرين
وقد أشرت إلى ذلك في الأمر الأوّل التحاكم للطاغوت مع وجود النّبيّ ’ من النقطة الأولى تحت عنوان ضد قيادة المجتمع.
الحدث الثاني: التعاون مع بني النضير
تواصل المنافقون مع الأعداء يأتي في سياق إسقاط الإسلام في المدينة كخطة أولى، وثم إذا انتصر الكفّار والمشركون يكونون سالمين من الأذى، ويحصلوا على المكاسب والغنائم والمصالح، وإن خسر المشركون فهم احتفظوا بإيمانهم الظاهري، فيكسبون الغنائم التي يحصل عليها المسلمون، قوله تعالى: {الَّذينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرينَ نَصيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرينَ عَلَى الْمُؤْمِنينَ سَبيلا}[45].
الأمر الثالث: الاجتماعات السرية
يجتمع المنافقون في أماكن متعددة ابتغاء التخطيط والاتفاق على الأعمال العدائية ضد الدين، والاستهزاء بما يعتقد به المسلمون وما يريدون القيام به من حروب وقتال، ومنها:
المكان الأول: مسجد ضرار
فعدّ هذا المسجد مكاناً للإضرار بالمسلمين كمركز متقدم للأعمال العدائية، فتعامل النّبيّ ’ مع هذا الأمر بالإحراق، لم يعط فرصة لهؤلاء المنافقين بالتقدم في خطواتهم تلك لبناء المراكز تحت العناوين البراقة التي تدس السم في جسد الأمّة الإسلاميّة.
المكان الثاني: بيت سويلم
وكان هذا البيت يجتمع فيه المنافقون، يثبطون النّاس عن الذهاب لحرب الروم في غزوة تبوك، فبعث الرسول ’ إليه طلحة بن عبيدالله في مجموعة من أصحابه، وأمره بحرق بيت سويلم عليهم[46].
الأمر الرابع: نشر الإشاعات
قام المنافقون بنشر الشائعات في وسط المجتمع المؤمن ووسط الاستعداد للحروب والقتال، وأذكر أبرز الأمثلة فيما نشره المنافقون من الإشاعات لإدخال الضرر على المسلمين، ومنها:
الحدث الأول: غزوة بدر
أشاع المنافقون في غزوة بدر -مع قلة عدد المقاتلين- عدم القدرة على القتال، وقد رد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ}[47].
الحدث الثاني: استخلاف الإمام علي بن أبي طالب ×
ذكر ابن هشام في كتاب سيرة النّبيّ ’ عن استخلاف النّبيّ ’ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على المدينة عند خروجه لغزوة تبوك، وقد أرجف المنافقون أن تركه النّبيّ ’ استثقالاً [48]، فكان هؤلاء يستهدفون بإشاعاتهم الإمام علي × ليتخلى عن استخلافه في المدينة من قبل النّبيّ ’ ليخلو لهم الجو بأراجيفهم، ويخلقوا الفتنة تلو الأخرى.
الحدث الثالث: إطلاق الأراجيف
أطلق المنافقون الكثير من الشائعات في المدينة المنورة، وقد حذرهم الله تعالى من ذلك، إذ تؤثر شائعاتهم على روحيات المقاتلين والمستعدين للخروج للقتال، فقال الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فيها إِلاَّ قَليلاً}[49].
[1] الخليل بن أحمد، الفراهيدي، كتاب العين، ج 4، ص 252.
[2] سيّد علي، الشهرستاني، وضوء النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ ج1، ص: 387.
[3] مجد الدين بن محمد الجزري، ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، ص 934.
[4] انظر، علي أكبر فيض، المشكيني، مصطلحات الفقه، ص: 542.
[5] النساء: 101
[6] المائدة: 51.
[7] المنافقون: .4
[8] ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2، ص 167.
[9] عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم، ابن الأثير، الكامل، ج 2، ص 193.
[10] ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2، ص 162.
[11] المصدر السابق، ج 2، ص 162.
[12] أبو الفداء إسماعيل بن عمر، ابن كثير الدمشقي، البداية والنهاية، ج 1، ص 18.
[13] النساء: 43، المائدة: 6.
[14] السيّد محمد حسين، الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 14، ص 392.
[15] الحج: 53.
[16] السيّد محمد حسين، الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 16، ص 309.
[17] الأحزاب: 32.
[18] محمد: 16.
[19] النساء: 61.
[20] البقرة: 18.
[21] النحل: 108.
[22] البقرة: 206.
[23] المنافقون: 4.
[24] النساء: 59.
[25] النساء: 60.
[26] السيّد محمد حسين، الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 15 ص 89.
[27] النور: 11.
[28] وقد سماهم في تفسير الصافي، ج2، ص 359.
[29] علي بن إبراهيم، القمي، تفسير القمي، ج1، ص: 301.
[30] أبو الحسن بن علي بن محمد الجزري، بن الأثير، أسد الغابة، ج 2، ص 383.
[31] أبو عمر يوسف بن عبدالله بن محمد، عبدالبر، الاستيعاب، ج 2 ص 712.
[32] الفضل بن الحسن، الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 6، ص 128.
[33] التوبة: 74.
[34] التوبة: 67.
[35] المنافقون: 7.
[36] الفضل بن الحسن، الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 10، ص 443، وقريب منه ما نقل في عيون الأثر، انظر أبو الفتح محمد، ابن سيّد الناس، عيون الأثر، ج 2، ص 130.
[37] التوبة: 11.
[38] الفضل بن الحسن، الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 10، ص 443، وقريب منه ما نقل في عيون الأثر، انظر أبو الفتح محمد، ابن سيّد الناس، عيون الأثر، ج 2، ص 130.
[39] التوبة: 56.
[40] المنافقون: 2.
[41] البقرة: 204.
[42] التوبة: 47.
[43] علي بن إبراهيم، القمي، تفسير القمي، ج1، ص: 122.
[44] الأحزاب: 18.
[45] النساء: 141.
[46] ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2، ص 517.
[47] الأنفال: 49.
[48] ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2، ص 520.
[49] الأحزاب: 60